فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن عطية: وقوله: {وذريَّتَه} ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين، الذين يأتون بالمنكر ويحملون على الباطل.
وذكر الطبري وغيره أن مجاهدًا قال: ذرية إبليس الشياطين، وكان يعدّهم: زَلَنْبُور صاحبُ الأسواق، يضع رايته في كل سوق بين السماء والأرض، يجعل تلك الراية على حانوت أوّل من يفتح وآخر من يغلق.
وثبر صاحب المصائب، يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب، والدعاءِ بالويل والحرب.
والأعور صاحب أبواب الزنى.
ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلًا.
وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلّم ولم يذكر اسم الله بصّرَه من المتاع ما لم يُرفع وما لم يُحسَن موضعه، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه.
قال الأعمش: وإني ربما دخلت البيت فلم أذكر الله ولم أسلّم، فرأيت مطهرة فقلت: ارفعوا هذه! وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول: داسم داسم! أعوذ بالله منه! زاد الثعلبي وغيره عن مجاهد: والأبيض، وهو الذي يوسوس للأنبياء.
وصخر وهو الذي اختلس خاتم سليمان عليه السلام.
والولهان وهو صاحب الطهارة يوسوس فيها.
والأقيس وهو صاحب الصلاة يوسوس فيها.
ومُرّة وهو صاحب المزامير وبه يُكْنَى.
والهفاف يكون بالصحارى يُضلّ الناس ويتيههم.
ومنهم الغيلان.
وحكى أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلؤيات عن مجاهد أن الهفاف هو صاحب الشراب، ولقوس صاحب التحريش، والأعور صاحب أبواب السلطان.
قال وقال الدّارانِيّ: إن لإبليس شيطانًا يقال له المتقاضي، يتقاضى ابن آدم فيخبر بعمل كان عمله في السرّ منذ عشرين سنة، فيحدّث به في العلانية.
قال ابن عطية: وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح، وقد طوّل النقاش في هذا المعنى وجلب حكايات تبعد عن الصحة، ولم يمرّ بي في هذا صحيح إلا ما كان في كتاب مسلم من: أن للصلاة شيطانًا يسمى خُنْزب.
وذكر الترمذي: أن للوضوء شيطانًا يسمى الولهان.
قلت: أما ما ذُكر من التعيين في الاسم فصحيح؛ وأما أن له أتباعًا وأعوانًا وجنودًا فمقطوع به، وقد ذكرنا الحديث الصحيح في أن له أولادًا من صلبه، كما قال مجاهد وغيره.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدّثهم بالحديث من الكذب فيتفرّقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلًا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدّث.
وفي مسند البَزّار عن سلمان الفارسي قال قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تكونن إن استطعت أوّل من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصِب رايته» وفي مسند أحمد بن حنبل قال: أنبأنا عبد الله بن المبارك قال حدّثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السُّلَمِيّ عن أبي موسى الأشعري قال: إذا أصبح إبليس بثّ جنوده فيقول من أضل مسلمًا ألبستُه التاج قال فيقول له القائل لم أزل بفلان حتى طلّق زوجته، قال: يوشِك أن يتزوّج. ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى عَقّ؛ قال: يوشِك أن يَبَرّ. قال ويقول القائل: لم أزل بفلان حتى شَرِب؛ قال: أنت! قال ويقول: لم أزل بفلان حتى زنى؛ قال: أنت! قال ويقول: لم أزل بفلان حتى قتل؛ قال: أنت أنت!
وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلتُ كذا وكذا فيقول ما صنعتَ شيئًا قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركتُه حتى فرّقتُ بينه وبين أهله قال فيُدنيه أو قال فيلتزمه ويقول نعم أنت». وقد تقدّم.
وسمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبد المعطي بثَغْر الإسكندرية يقول: إن شيطانًا يقال له البيضاوي يتمثل للفقراء المواصلين في الصيام فإذا استحكم منهم الجوع وأضر بأدمغتهم يكشف لهم عن ضياء ونور حتى يملأ عليهم البيوت فيظنّون أنهم قد وصلوا وأن ذلك من الله وليس كما ظنوا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}.
العضد العضو من الإنسان وغيره معروف وفيه لغتان، فتح العين وضم الضاد وإسكانها وفتحها وضم العين والضاد وإسكان الضاد، ويستعمل في العون والنصير.
قال الزجاج: والإعضاد التقوّي وطلب المعونة يقال: اعتضدت بفلان استعنت به.
الموبق المهلك يقال: وبق يوبق وبقًا ووبق يبق وبوقًا إذا هلك فهو وابق، وأوبقته ذنوبه أهلكته.
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه}.
ذكروا في ارتباط هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بمجالسة الفقراء وكان أولئك المتكبرون قد تأنفوا عن مجالستهم، وذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم طردهم عنه وذلك لما جبلوا عليه من التكبر والتكثر بالأموال والأولاد وشرف الأصل والنسب، وكان أولئك الفقراء بخلافهم في ذلك ناسب ذكر قصة إبليس بجامع ما اشتركا فيه من التكبر والافتخار بالأصل الذي خلق منه وهذا الذي ذكروه في الإرتباط هو ظاهر بالنسبة للآيات السابقة قبل ضرب المثلين، وإما أنه واضح بالنسبة لما بعد المثلين فلا والذي يظهر في ارتباط هذه الآية بالآية التي قبلها هو أنه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المشركين مما سطر في ذلك الكتاب، وكان إبليس هو الذي حمل المجرمين على معاصيهم واتخاذ شركاء مع الله ناسب ذكر إبليس والنهي عن اتخاذ ذريته أولياء من دون الله تبعيدًا عن المعاصي، وعن امتثال ما يوسوس به.
وتقدم الكلام في استثناء إبليس أهو استثناء متصل أم منقطع، وهل هو من الملائكة أم ليس منهم في أوائل سورة البقرة فأغني عن إعادته، والظاهر من هذه الآية أنه ليس من الملائكة وإنما هو من الجن.
قال قتادة: الجن حي من الملائكة خلقوا من نار السموم، وقال شهر بن حوشب: هو من الجن الذين ظفرت بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، وقال الحسن وغيره: هو أول الجن وبداءتهم كآدم في الإنس.
وقالت فرقة: كان إبليس وقبيله جنًا لكن الشياطين اليوم من ذريته فهو كنوح في الإنس.
وقال الزمخشري: كان من الجن كلام مستأنف جارٍ مجري التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلًا قال: ما له لم يسجد فقيل {كان من الجن ففسق عن أمر ربه} والفاء للتسبيب أيضًا جعل كونه من الجن سببًا في فسقه، يعني إنه لو كان ملكًا كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله لأن الملائكة معصومون ألبتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس كما قال: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} وهذا الكلام المعترض تعمد من الله عز وعلا لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم، فما أبعد البون بين ما تعمده الله وبين قول من ضادّه فزعم أنه كان ملكًا ورئيسًا على الملائكة فعصى فلُعن ومُسخ شيطانًا، ثم وركه على ابن عباس انتهى.
والظاهر أن معنى {ففسق عن أمر ربه} فخرج عما أمره ربه به من السجود.
قال رؤبة:
يهوين في نجد وغورًا غائرًا ** فواسقًا عن قصدها حوائرا

وقيل: {ففسق} صار فاسقًا كافرًا بسبب أمر ربه الذي هو قوله: {اسجدوا لآدم} حيث لم يمتثله.
قيل: ويحتمل أن يكون المعنى {ففسق} بأمر ربه أي بمشيئته وقضائه لأن المشيئة يطلق عليها أمر كما تقول: فعلت ذلك عن أمرك أي بحسب مرادك، والهمزة في {أفتتخذونه} للتوبيخ والإنكار والتعجب أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان تتخذونه وذريته أولياء من دوني مع ثبوت عداوته لكم تتخذونه وليًا.
وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر وهو يخطب {أفتتخذونه وذريته} بفتح الذال، والظاهر أن لإبليس ذرية وقال بذلك قوم منهم قتادة والشعبي وابن زيد والضحاك والأعمش.
قال قتادة: ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم.
وقال الشعبي: لا يكون ذرية إلاّ من زوجة.
وقال ابن زيد: إن الله قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلاّ ذرأت لك مثلها، فليس يولد لولد آدم ولد إلاّ ولد معه شيطان يقرن به.
وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم: ألك شيطان؟ قال: «نعم إلا أنّ الله تعالى أعانني عليه فأسلم» وسمي الضحاك وغيره من ذرية إبليس جماعة الله أعلم بصحة ذلك، وكذلك ذكروا كيفيات في وطئه وإنساله الله أعلم بذلك، وذهب قوم إلى أنه ليس لإبليس ولد وإنما الشياطين هم الذين يعينونه على بلوغ مقاصده، والمخصوص بالذم محذوف أي {بئس الظالمين بدلًا} من الله إبليس وذريته وقال: {للظالمين} لأنهم اعتاضوا من الحق بالباطل وجعلوا مكان ولايتهم إبليس وذريته، وهذا نفس الظالم لأنه وضع الشيء في غيره موضعه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِذَ قُلْنَا للملائكة} أي اذكر وقتَ قولنا لهم: {اسجدوا لآدَمَ} سجودَ تحيةٍ وتكريم وقد مر تفصيلُه {فَسَجَدُواْ} جميعًا امتثالًا بالأمر {إِلاَّ إِبْلِيسَ} فإنه لم يسجُد بل أبى واستكبر وقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الجن} كلامٌ مستأنفٌ سيق مساقَ التعليلِ لما يفيده استثناءُ اللعين من الساجدين، كأنه قيل: ما له لم يسجُد؟ فقيل: كان أصلُه جنيًّا {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} أي خرج عن طاعته كما ينبىء عنه الفاءُ، أو صار فاسقًا كافرًا بسبب أمرِ الله تعالى إذ لولاه لما أبى. والتعرضُ لوصف الربوبيةِ المنافية للفسق لبيان كمالِ قبحِ ما فعله، والمرادُ بتذكير قصّتِه تشديدُ النكيرِ على المتكبرين المفتخرين بأنسابهم وأموالِهم المستنكفين عن الانتظام في سلك فقراءِ المؤمنين ببيان أن ذلك من صنيع إبليسَ وأنهم في ذلك تابعون لتسويله كما ينبىء عنه قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} الخ، فإن الهمزةَ للإنكار والتعجبِ والفاءَ للتعقيب أي أعَقيبَ علمِكم بصدور تلك القبائحِ عنه تتخذونه {وَذُرّيَّتَهُ} أي أولادَه وأتباعَه، جعلوا ذريتَه مجازًا. قال قتادة: يتوالدون كما يتوالد بنو آدمَ، وقيل: يُدخل ذنبَه في دُبُره فيبيض فتنفلق البيضةُ عن جماعة من الشياطين {أَوْلِيَاء مِن دُونِى} فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدَل طاعتي {وَهُمْ} أي والحال أن إبليسَ وذريته {لَكُمْ عَدُوٌّ} أي أعداءٌ كما في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ العالمين} وقوله تعالى: {هُمُ العدو} وإنما فُعل به ذلك تشبيهًا له بالمصادر نحو القَبول والوُلوع وتقييد الاتخاذِ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكارِ وتشديدِه، فإن مضمونَها مانعٌ من وقوع الاتخاذِ ومنافٍ له قطعًا {بِئْسَ للظالمين} أي الواضعين للشيء في غير موضعِه {بَدَلًا} من الله سبحانه إبليسُ وذريتُه، وفي الالتفات إلى الغَيبة مع وضع الظالمين موضعَ الضمير من الإيذان بكمال السُخطِ والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلمٌ قبيح ما لا يخفى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذْ قُلْنَا} أي اذكر وقت قولنا {للملائكة} كلهم كما هو الظاهر، واستثنى بعض الصوفية الملائكة المهيمين، وبعض آخر ملائكة السماء مطلقًا وزعم أن المقول له ملائكة الأرض.
{اسجدوا لآَدَمَ} سجود تحية وإكرام أو اسجدوا لجهته على معنى اتخذوه قبلة لسجودكم لله تعالى، وقد مر تمام الكلام في ذلك {فَسَجَدُواْ} كلهم أجمهون امتثالًا للأمر {إِلاَّ إِبْلِيسَ} لم يكن من الساجدين بل أبى واستكبر، وقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الجن} كلام مستأنف سيق مساق التعليل لما يفيده استثناء اللعين من الساجدين، وقيل: حال من المستثنى وقد مقدرة والرابط الضمير وهو اختيار أبى البقاء، والأول الصق بالقلب فكأنه قيل ما له لم يسجد؟ فقيل كان أصله جنيًا، وهذا ظاهر في أنه ليس من الملائكة.
نعم كان معهم ومعدودًا في عدادهم، فقد أخرج ابن جرير عن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبى إبليس وكان صغيرًا فكان مع الملائكة فتعبد بالسجود معهم. وأخرج نحوه عن شهر بن حوشب، وهو قول كثير من العلماء حتى قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم: قاتل الله تعالى أقوامًا زعموا أن إبليس من الملائكة والله تعالى يقول: {كَانَ مِنَ الجن} وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنبياري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة أنه قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس، وفيه دلالة على أنه لم يكن قبله جن كما لم يكن قبل آدم عليه السلام انس، وفي القلب من صحته ما فيه.
وأقرب منه إلى الصحة ما قاله جماعة من أنه كان قبله جن إلا أنهم هلكوا ولم يكن لهم عقب سواه فالجن والشياطين اليوم كلهم من ذريته فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس على ما هو المشهور، وقيل: كان من الملائكة والجن قبيلة منهم، وقد أخرج هذا ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنهما أن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنًا على الجنان وكان له سلطان السماء الدنيا وكان له مجمع البحرين بحر الروم وبحر فارس وسلطان الأرض فرأى أن له بذلك عظمة وشرفًا على أهل السماء فوقع في نفسه كبر لم يعلم به أحد إلا الله تعالى فلما أمر بالسجود ظهر كبره الذي في نفسه فلعنه الله تعالى إلى يوم القيامة، وكان على ما رواه عنه قتادة يقول: لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود.